مشاركة:

المقالات


image not found

من أصول التفسير: إخلاص النيّة لله

محمد عناية الله أسد سبحاني

الأصل الأول لتفسير القرآن، وتدبر آياته، والتوصل إلى مراميه وأهدافه، هو إخلاص النية لله، والتجرد الكامل من الهوى، وتفريغ القلب من كل فكرة طارئة، لا يوجد لها أصل في القرآن. سواء كانت قديمة متوارثة، أو جديدة مستحدثة.

لابد من ذلك كله حينما نجلس مع القرآن الكريم، نتدبره، ونستمع إليه.

لابد من تفريغ الذهن من تلك الأفكار الطارئة، أو عرضها على القرآن الكريم، واستفتائه فيها بكل صدق وإخلاص، فإن أقرّها القرآن، أقرها الباحث المسلم، واطمأن إليها، وتمسك بها، وإلا انصرف عنها، ورمى بها عرض الحائط، ثم استبدل بها ما يهديه إليه القرآن.

فمن شأن العالم المسلم أن ينطلق دائما مع القرآن، ويعطيه زمامه، حتى لا يحيد عن الطريق في رحلاته العلمية، وتطوراته الفكرية، ونشاطاته السلوكية، وتعاملاته الفردية أو الاجتماعية، وحتى يمضي في سبيله قُدُما وهو على نور من ربه.

هذا الإخلاص، وهذا التجرد هو زاد العالم المسلم في طريق فهم القرآن وتدبره، حيث تُفتح عليه أبواب معارف القرآن، ويملؤ كفيه بما لم يخطر منه على بال، وكلما غاص فيه غوصة، أخرج منه درّة!

وهذا الإخلاص، وهذا التجرد هو الذي يكون سببا إلى الصحوة في حياة الفرد، وفي حياة الأمة، فالفرد يصحو، والأمة تصحو، وهم يكرهون حالة الركود والجمود، ويتطلعون إلى السموّ والعلوّ.

وأما إذا كان الرجل متعصبا لمذهب، أو متمسكا بفكرة، أو معجبا بنزعة، ثم جلس مع القرآن، حتى يلوي عنقه، ويستخرج منه ما يقوي مذهبه، أو يؤيد فكرته، أو يقرّ نزعته، أو يمهّد له الطريق إلى ما يريده، فهو يشقى بالقرآن، ولا يسعد به، ولا يزداد إلا خسارا، والقرآن لا يزيده إلا بعدا عن الحق، وتماديا في الغيّ. ويصدق عليه قول الله سبحانه وتعالى:

﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ.﴾[1]

فلا يجوز أن يُجعل القرآن تابعا لمذهب في الفقه، أو نحلة في الكلام، أو مقولة في الفلسفة، أو شطحة في التصوف.

لا يجوز أن يُدرس القرآن، وكأنه نزل بمذهب معين من مذاهب الناس، فلا يقال: إنه نزل بفقه أبي حنيفة، أو بفقه مالك، أو بفقه الشافعي، أو بفقه أحمد، أو بفقه الظاهرية، أو بفقه الإباضية، أو بفقه الزيدية، أو بفقه الجعفرية، وما إلى ذلك.

لا يجوز أن يُدرس القرآن، وكأنه يدعم طائفة خاصة، أو فئة معينة من الناس،كائنة ما كانت تلك الطائفة، وكائنة ما كانت تلك الفئة.

بل يجب أن يُعتبر القرآن إماما وقائدا للجميع، ومرجعا للجميع، ومهيمنا على الجميع، وكل يُعرض على القرآن، ويقاس بمقياس القرآن، ويُعرف مكانه من الصحة والإصابة، بمكانه من القرآن.

قال الإمام ولي الله الدهلوي:

"أما النزاع والجدال في الأحكام، والآراء المستنبطة منها، وإحكام كل فريق لمذهبه، وطرحه لمذهب غيره، والهرب من الأدلة القرآنية، فكل ذلك لا يجوز.

ويجب على طالب علوم القرآن أن يبحث في مدلول الآية، ويتمسك بما يظهر من دلالتها، سواء خالف مذهبه أم وافقه.

وقد وقع خلل ونقص وتدافع غريب في إعراب القرآن الكريم، وهو أن طائفة من المفسرين اختاروا مذهب سيبويه، فيؤولون كل ما خالف مذهبه، مهما كان التأويل بعيدا غير مستساغ، وهذا لا يصح، بل يجب الأخذ بالأولى والأوفق بالسياق، سواء وافق مذهب سيبويه أم وافق مذهب الفراء."[2]

ولو أن الناس فعلوا ذلك، وراجعوا أفكارهم وعقائدهم ومذاهبهم في ضوء القرآن مراجعة جادّة، لكان فهمهم للقرآن أعمق وأوسع، وكان اجتماعهم في كثير من الأمور التي اختلفوا فيها أسهل وأيسر.

 


[1]سورة البقرة: 26

[2]الفوز الكبير في أصول التفسير للدهلوي :1/116