المقالات

مع الآية (33) من سورة النساء
محمد عناية الله أسد سبحاني
قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
تلك الآية كانت موضع حيرة عند كثير من المفسرين، فلتكن لنا وقفة متأنية عندها.
قال الإمام الزمخشري في تأويل تلك الآية:
(مِمَّا تَرَكَ) تبيين لكل، أى: ولكل شيء مما ترك الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من المال جعلنا موالي وراثا يلونه ويحرزونه.
أو ولكل قوم جعلناهم موالي، نصيب مما ترك الوالدان والأقربون على أن (جَعَلْنا مَوالِيَ) صفة لكل، والضمير الراجع إلى كل محذوف، والكلام مبتدأ وخبر، كما تقول: لكل من خلقه اللَّه إنسانا من رزق اللَّه، أى حظ من رزق اللَّه.
أو: ولكل أحد جعلنا موالي مما ترك، أى ورّاثا مما ترك، على أن «من» صلة موالي، لأنهم في معنى الورّاث، وفي : (تَرَكَ) ضمير كلّ، ثم فسر الموالي بقوله: (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كأنه قيل: من هم؟
فقيل: الوالدان والأقربون.
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ مبتدأ ضمن معنى الشرط. فوقع خبره مع الفاء وهو قوله فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ويجوز أن يكون منصوباً على قولك: زيداً فاضربه. ويجوز أن يعطف على الوالدان، ويكون المضمر في: (فَآتُوهُمْ) للموالي.
والمراد بالذين عاقدت أيمانكم: موالي الموالاة، كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمى دمك، وهدمي هدمك، وثأرى ثأرك، وحربى حربك، وسلمى سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بى وأطلب بك، وتعقل عنى وأعقل عنك.
فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، فنسخ.
وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه خطب يوم الفتح فقال «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، فإنه لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام.
وعند أبى حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل، وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا، صح عنده وورث بحق الموالاة خلافا للشافعي.
وقيل: المعاقدة التبني. ومعنى عاقدت أيمانكم: عاقدتهم أيديكم وماسحتموهم. وقرئ (عَقَدَتْ) بالتشديد والتخفيف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم.
(الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل- سورةالنساء:1/504-505-دارالكتاب العربي-بيروت)
هذا ماسجله الزمخشري في تأويل تلك الآية، وتلك التأويلات تنقل الباحث من حيرة إلى حيرة، ومن واد إلى واد، ولايدري أين يستقرّ!
علما بأن الآية لم يكن فيها أيّ غموض، وإنما هي تلخيص وتأكيد لما سبق من تفصيل الورثة في آيتي الميراث، وهم الوالدان، والأقربون، والأزواج. فالورثة الذين ذكروا في الآيتين (11-12) من سورة النساء لايعدُون تلك الأصناف الثلاث.
كلمة وجيهة لصاحب المنار
قال صاحب تفسيرالمنار:
ولكل جعلنا موالي مما ترك، فالموالي من لهم الولاية على التركة، و" من " في قوله تعالى: مما ترك ابتدائية، والجملة تتم بقوله: (ترك). والمعنى: ولكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا والنساء اللواتي لهن نصيب مما اكتسبن، موالٍ لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم، وهؤلاء الموالي هم: الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم أي: جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج، كما تقدم التفصيل في أول السورة.
فالمراد هنا بالذين عقدت أيمانكم: الأزواج، فإن كل واحد من الزوجين يصير زوجا له حق الإرث بالعقد، والمتعارف عند الناس في العقد أن يكون بالمصافحة باليدين. فآتوهم نصيبهم، أي: فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم المفروض لهم، ولا تنقصوهم منه شيئا.
(محمد رشيد رضا-تفسيرالمنار:5/ 53-الهيئة المصرية العامة للكتاب-ط:1990)
هذا ما قاله صاحب تفسير المنار، وكان موفقا فيما قال، فليس المراد بـ(الذين عقدت أيمانكم) في الآية موالي الموالاة، أو الأدعياء، كما قيل، حيث لم يكن لهم في الإرث نصيب، ولم يكن لهم منه حبل ولابعير. لا في فجر الإسلام ولا في ضحاه.
وإنما المراد بـ(الذين عقدت أيمانكم) هم الذين تربطهم وشائج النكاح والزواج.
من فوائد هذا التأويل
ومن فوائد هذا التأويل أنه يغنينا عن القول بالنسخ في هذه الآية، فالآية محكمة، وماذهب من ذهب إلى القول بنسخها إلا لأنه لم يهتد إلى صحيح تأويلها.
فتمام الكلام في الآية قوله تعالى) مماترك). وليس ارتفاع (الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم) على أساس الفاعليّة لـ(ترك)، وإنما هو خبر الابتداء، والتقدير:وهم الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم.
فمعنى الآية: ولكل إنسان جعلنا موالي –أي: ورثة- يرثون ما تركه بعد موته، والورثة هم الوالدان و الأقربون ومن تربطهم به وشائج النكاح. هؤلاء هم الوارثون فآتوهم نصيبهم. ولاتحرموا أحدا حقه.
تفسير القرآن بالقرآن