مشاركة:

المقالات


image not found

سورة 'والضحى' وما فيها من عزاء وبشرى!

محمد عناية الله أسد سبحاني

قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
أقسم ربنا أولابالضحى، والضحى- فيمايقول الراغب -انْبِساطُ الشمسِ وامْتِدادُ النَّهارِ، وسُمِّي الوَقْتُ به.
(الراغب الأصفهاني- مفردات القرآن-كتاب الضاد:1/502)

وحي لفظ "الضحى":
والضحى يوحي فيما يوحي، بمعنى الأذى، والشدة.
قال الليث: ضَحِيَ الرجلُ يَضْحى ضَحاً: إِذا أَصابَهُ حَرُّ الشمس قال الله تعالى: (وأَنك لا تَظْمَأُ فيها ولا تَضْحى) قال: لا يُؤْذِيك حَرُّ الشمس. وقال الفراء: لا تَضْحى: لا تُصِيبُك شمسٌ مؤْذِيَةٌ.
ومنه جاء فيه معنى الهجوم والغارة، يقال ضَحَّيْنا بني فلانٍ، أي: أَتيناهْم ضُحىً مُغيرينَ عليهم، قال:
أَراني إِذا ناكَبْتُ قوْماً عَداوَةً ** فضحَّيْتُهم إني على الناسِ قادِرُ
ومنه قولُ حَسَّان بن ثابت يَرْثي عثمانَ:
ضَحَّوْا بأَشْمَطَ عُنوانُ السُّجودِ به ** يُقَطِّعُ اللَّيلَ تسْبِيحاً وقُرْآنا
(ديوان حسان بن ثابت : 1/230، وانظر: ابن منظور،لسان العرب: ضحا)

مفهوم "إذا سجى":
ثم أقسم بالليل إذا سجى، وسجى من السجوّ، وهو يحمل معنى السكون والهدوء، والراحة والاستقرار.
قال الفراء: سجا، إذا أَظلم ورَكَد في طُوله كما يقال بحرٌ ساجٍ إذا ركد وأَظلم ومعنى رَكَدَ سكن، قال الأعشى:
فما ذَنْبُنا أَن جاشَ بحرُ ابن عَمِّكُمْ ** وبحرُك ساجٍ لا يواري الدَّعامِصــــــــــــــــــــــــــــا ؟
وفي حديث علي: ولا ليل داجٍ ولا بحْر ساج أَي ساكن.
الزجاج : سَجا: سَكَنَ، وأَنشد للحارثي:
يا حبَّــــــــــــــــــــــــــذا القمراءُ والليلُ الساجْ ** وطُرُقٌ مثلُ مُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــلاء النَّسَّاجْ
معمر: والليل إذا سَجا: إذا سَكن بالناسِ. وسَجا البحرُ وأَسْجى إذا سكَنَ. وسَجا الليلُ وغيرُه يَسْجُو سُجُوّاً وسَجْواً سكَن ودام، وليلةٌ ساجيةٌ إذا كانت ساكِنَة البرْدِ والرِّيحِ والسَّحاب غير مُظّلِمَة. وسَجا البحرُ سَجْواً: سكَن تموُّجُه. وامرأَةٌ ساجِيةٌ فاتِرَة الطَّرْفِ. الليث: عينٌ ساجيةٌ فاتِرَةُ النظر يَعْتَري الحُسْنَ في النساء.(انظر: ابن منظور،لسان العرب: سجا)

وجه الاستدلال في القسمين:
هذان قَسمان، أحدهما يحمل معنى الأذى والشدة، ويحمل معنى الهجمات والغارات، والآخر يحمل معنى السكون والهدوء، ويحمل معنى الراحة والاستقرار.
فكما أن الضحى الصاخب المحرق الذي يتسم بالقيظ والحرّ، والذي يتسم بالضجاج والحجاج، والصيحة و الجلبة، يتبعه ليل نديّ هادئ ساكن مريح، فكذلك هذه الظروف الحرجة القاسية الصاخبة ستتبعها ظروف كريمة ناعمة مفرحة.
هذه الظروف لابد أن تتغير، وتلك الشدائد لابد أن ترحل.
وإذا كانت أيامك هذه أيام عناء وشدة، وأيام بلاء ومحنة، فلايجدنّ اليأس إلى قلبك سبيلا، ولا يخطرنّ ببالك أن ربك ودّعك، أو قلاك، فالبلاء والمحنة من طبيعة الدعوة، وطبيعة الرسالة. وعلى الرغم من هذه البلايا وتلك المحن فإن دعوتك ستنمو وتزدهر، والغد المقبل سيكون خيرا من الأمس الدابر، ويكون خيرا من اليوم الحاضر. وللآخرة خير لك من الأولى.
وأما ربك فقد تولاك بعطفه ورعايته، وأحاطك بودّه وكرمه منذ أول خلقك، فرحمته دائبة، وعنايته متواصلة في صغرك وفي كبرك، ومن قبل النبوة، ومن بعد النبوة، كنت يتيما فآواك، وكنت ضالا فهداك، وكنت عائلا فأغناك. وشرح لك صدرك، ووضع عنك وزرك، ورفع لك ذكرك. فذلك قوله تعالى:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
فهاتان السورتان- سورة والضحى، وسورة الشرح- كأنهما توأمان، أو شقيقتان جاءتا لتثبيت فؤاد النبي عليه الصلاة والسلام، وتثبيت أقدامه، في ظروف حرجة مكفهرّة كانت تهدد بالخطر، وكادت تطفئ بارقة الأمل في نجاح الدعوة، ونموّها وازدهارها، واستوائها على سوقها.

تأويل صاحب التبيان:
وهناك نظرة أخرى تختلف عن هذه النظرة، في تأويل أقسام هذه السورة، قال الإمام ابن القيم:
"فتأمل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذي يوافى بعد ظلام الليل، للمقسم عليه، وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدا ربه فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل، على ضوء الوحي ونوره، بعد ظلمة احتباسه واحتجابه."
(انظر ابن القيم، التبيان في أقسام القرآن، فصل القسم في سورة والضحى)
ولايفوتنا التنبيه إلى أن قصة احتباس الوحي ليست ثابتة، حتى يبنى عليها تأويل الآية،
فهي من بلاغات الزهري، حيث قال فيما رواه البخاري:

وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. (صحيح البخاري- رقم: 6982-دار طوق النجاة- الطبعة الأولى-1422ه)

قال صاحب السيرة النبوية الصحيحة، في ضمن الكلام على هذه الرواية:

"ويوضح بلاغ الزهري الأزمة التي تعرض لها الرسول لانقطاع الوحي، وإنه كاد يتردَّى من شواهق الجبال، وأن جبريل عليه السلام كان يظهر له في كل مرة ويبشره بأنه رسول الله، ولكن بلاغ الزهري لا يصلح لإثبات الحادث لتعارضه مع عصمة النبي عليه السلام، ثم إنه مرسل ضعيف. ولا يعلم على وجه التحديد كم دامت مدة انقطاع الوحي." (د. أكرم ضياء العمري-السيرة النبوية الصحيحة:1/126-127-مكتبة العلوم والحكم- المدينة المنورة-الطبعة السادسة-1415ه)

ويقول العلامة محمد ناصر الدين الألباني:

" وإذا عرفت عدم ثبوت هذه الزيادة، فلنا الحق أن نقول:إنها زيادة منكرة من حيث المعنى لأنه لايليق بالنبي المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يحاول قتل نفسه بالتردي من الجبل، مهما كان الدافع له على ذلك. (الألباني-دفاع عن الحديث والسيرة:1/42)

فالصحيح أن الوحي لم يحتبس، ولم يحتجب، ولم يهيء الفرصة للأعداء قط حتى يسخروا من رسول الله، ويقولوا: ودّعك ربك يا محمد! وقلاك!

وإنما كان يأتي الوحي بنظام حكيم وضعه الله، وما كان يأتي كل يوم، لافي أول النبوة، ولا في آخر النبوة، بل كان يأتي كلما أنى أوانه في علم الله، وكلما اقتضى الأمر، واجتمعت دواعيه وأسبابه في تقدير الله.

وقد يتأخر الوحي شهرا، أو أكثر من شهر، وهذا الذي ذكر في الرواية بلفظ "الفترة" وتلك الفترة لم تكن مرة واحدة، كما توهم هذه الرواية، بل كانت مرات ومرات في فجر البعثة، وضحاها، وظهرها، وعشيّها.
ثم سياق الآيات لايشجعنا على القول بما قال به صاحب التبيان فإن الليلة الساجية أدعى إلى السكينة والبهجة من الضحى الصاخب، ولوكان المراد ماذهب إليه صاحب التبيان لقيل: والليل إذا دجا، أووالليل إذا أغشى، أو ما شابه ذلك.
جملة القول أن ربنا سبحانه وتعالى استشهد بالضحى والليل إذاسجى، على تغير الظروف والملابسات التي كانت تحيط برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في ضحى الدعوة في مكة، وطمّنهم أنهم سيتحولون من عسر إلى يسر، وسيتحولون مما يسوءهم إلى ما يسرّهم، كما ورد في السورة التالية:

 فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (سورة الشرح:6)
فليواصلوا المسير، وليتوكلوا على العليم القدير.

وتلك الآيات كما كانت تحمل عزاء وسلوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المظلومين المضطهدين، حين نزلت، كذلك  تحمل لنا اليوم عزاء وسلوى في ظروفنا الحرجة القاسية المكفهرّة!

فربنا سبحانه وتعالى ما ودّعنا وما قلى، وليس غافلا عما يفعل بنا الظالمون!

إنه وعدنا، ووعده الحق:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (سورة محمد:7)

إن أعداء الإسلام مهما كثروا!

ومهما بلغوا من القوة والسيطرة والغطرسة!

 ومهما ملكوا من الصواريخ، والقنابل، والدبابات المحرقة المدمرة!  

فهم لن يعجزوا الله في الأرض، ولن يعجزوه هربا.

نظام القرآن تفسير القرآن بالقرآن